ثانيا: الافساد المادي في الارض:
بالاضافه الي الفساد المعنوي الذي قد عم الارض في زمن الفتن الذي نعيشه فان هذا النص القراني المعجز يشير ايضا الي الافساد المادي في بيئات الارض الثلاث: التربه والماء والهواء وذلك لان لفظه( البر) تشمل كلا من اليابسه وما يحيط بها من غلاف غازي وكذلك لفظه( البحر) تشمل كلا من القاع المنخفض والماء الذي يمتلئ به وما يحيط بهما من غلاف غازي. وهذه البيئات الثلاث وما بكل منها من مختلف صور الاحياء والجمادات تشكل حلقات مترابطه يتاثر بعضها ببعض واي اخلال بنظام احداها يوثر سلبا علي النظم الاخري.
وقد بدات مشكله تلوث البيئه في التفاقم مع بدايه الثوره الصناعيه في اوروبا الغربيه والتي كانت اولي خطواتها مع اختراع الاله البخاريه. فقد ادي سوء استخدام الوقود الاحفوري( من امثال الفحم الحجري والنفط والغازات الطبيعيه) في الات الاحتراق الداخلي ومحركات الدفع والمصانع المختلفه الي زياده نسبه عدد من الغازات السامه التي من اخطرها اكسيد كل من الكربون والكبريت والنيتروجين والرصاص والهيدروكربونات غير كامله الاحتراق التي تطلق كلها في الغلاف الغازي للارض.
وهذا الاعتداء علي البيئه وعلي ما فيها من احياء هو من معاني الافساد في الارض لانه افساد مادي ملموس يحدثه الانسان بسوء سلوكياته وتصرفاته في مختلف بيئات الارض وقد احكم الله خلقها وضبط علاقاتها ببعضها كما وكيفا باحكام واتزان بالغين لا يخله الا افساد الانسان وذلك لان الله تعالي خلق كل شيء بقدر اي بمكونات ومقادير محدده ومتوازنه وبصفات وخصائص معينه تكفل لكل بيئه الملاءمه الكامله لانواع الحياه التي خلقت لها في توافق واعتدال لا يفسده الا تدخل الانسان بطمعه وجشعه واسرافه او بجهله وتخلفه وتسيبه او بسوء نواياه وخبث مقاصده مما يفسد مكونات النظم البيئيه الدقيقه كما وكيفا ويخرجها عن سويتها التي خلقها الله تعالي بها ويجعلها غير موائمه للاحياء التي تعيش فيها ويصيبها بشيء من الخلل او الشلل الذي يعطلها عن اداء وظيفتها ويفقدها صلاحيتها ونفعها. ومن صور هذا الافساد المادي ما يلي:
1 التلوث الكيميائي للبيئه:
ويتم ذلك بتزايد اطلاق كميات هائله من الملوثات الغازيه والسائله والصلبه الي مختلف بيئات الارض من التربه والماء والهواء وذلك من مثل غازات اول وثاني اكسيد الكربون واكاسيد كل من النيتروجين والكبريت والرصاص والزئبق والهيدروكربونات غير كامله الاحتراق وغيرها من الملوثات السامه لكل حي. وتميل هذه الغازات الي التفاعل السريع مع ماده الهيموجلوبين في خلايا الدم الحمراء اثناء مرور الدم بشعيرات الرئتين فينتج عن هذه التفاعلات اعداد من المركبات الكيميائيه المعقده التي تعيق الدم عن القيام بدوره في الاتحاد مع الاكسجين القادم مع عمليه الشهيق من اجل نقله الي بقيه اجزاء الجسم ومن اعراض ذلك حدوث ضيق في التنفس الي حد الشعور بالاختناق وما يستتبعه من تاثيرات سلبيه علي كل من المخ وبقيه الجهاز العصبي تصحبها الام الصداع الحاده وقد تودي الي حدوث الذبحه الصدريه وتنتهي بالوفاه.
كذلك فان غاز ثاني اكسيد الكربون له قدره هائله علي امتصاص الاشعه تحت الحمراء القادمه مع اشعه الشمس مما يودي الي رفع درجه حراره الغلاف الغازي للارض بالتدريج خاصه وان ثاني اكسيد الكربون اذا زادت نسبته في الغلاف الغازي للارض فانه يتجمع بالقرب من سطحها نظرا للكثافه النسبيه العاليه له فيعمل كحاجز حراري يحيط بالارض احاطه كامله مما يودي الي خلخله واضطراب المناخ وتحرك العواصف والاعاصير المدمره.
وتدل القياسات العلميه المختلفه علي ان نسبه ثاني اكسيد الكربون في جو الارض وهي في الاصل في حدود0.003% تقدر اليوم بحوالي0.0318% بمعني انها قد تضاعفت اكثر من عشر مرات منذ بدايه الثوره الصناعيه الي اليوم.
اما اكاسيد النيتروجين والتي ينتج بعضها عن تعفن النفايات التي ينتجها الانسان وينتج البعض الاخر عن اكسده نيتروجين الغلاف الغازي للارض بواسطه درجات الحراره العاليه الناتجه عن اجهزه الاحتراق الداخلي المختلفه في كل من المصانع ووسائل النقل المتعدده من( السيارات والطائرات والصواريخ والبواخر والبوارج وغيرها). واكاسيد النيتروجين هي غازات سامه وضاره خاصه بالاجهزه التنفسيه للاحياء وفي مقدمتها الانسان اذا زادت نسبتها في الهواء عن00.05% جرام/ م3. بينما تركيزها السائد في اغلب المدن الصناعيه اليوم يتعدي1 جرام/ م3.
وبالمثل فان اكاسيد الكبريت( اول وثاني اكسيد الكبريت) هي غازات مهيجه لانسجه الاجهزه التنفسيه عند كل من الانسان والحيوان وضاره بالنباتات وبالجمادات وذلك لان ثاني اكسيد الكبريت بالذات له قابليه عاليه للذوبان في الماء مكونا حمض الكبريتيك وهو واحد من اقوي الاحماض المعروفه لنا وله قدره فائقه علي اذابه العديد من المواد العضويه وغير العضويه مما يودي الي اتلاف الانسجه الحيه والي تاكل كل من المواد الفلزيه( من مثل الحديد والنحاس والرصاص وغيرها) وغير الفلزيه( ومنها احجار البناء والمواد الخرسانيه والخشبيه) وقد ينتج عن هذه التفاعلات هباءات من المركبات الكبريتيه الضاره( من مثل كبريتات وكبريتيدات العناصر المختلفه) التي تنتشر في الجو فتلوثه وسرعان ما تنتقل من الهواء الي كل من التربه والماء فتلوثهما ثم تجد طريقها الي الاحياء فتصيبهم باضرار بالغه وذلك عن طريق ما يعرف باسم الامطار الحمضيه.
ومن الثابت علميا ان مثل هذه الملوثات للبيئه لها علاقه مباشره بانتشار العديد من الامراض الخطيره من امثال الاورام السرطانيه ونقص المناعه والحساسيه وغيرها من امراض الجهاز التنفسي.
ولا يتوقف دور مختلف المصانع والانشطه الصناعيه الاخري ووسائل المواصلات( من السيارات والشاحنات والطائرات والبواخر والغواصات وحاملات الطائرات والصواريخ وغيرها) عند حدود ما تطلقه من الغازات والسوائل والجوامد السامه بل تتعدي ذلك الي ما تثيره اجهزه المصانع ووسائل الاتصال والنقل المختلفه من ضجيح له تاثيراته السلبيه علي مختلف صور الحياه وما تنتجه وسائل النقل الارضيه من غبار ونتائج تاكل كل من الاطارات وصفائح الكوابح واسطح الطرق المرصوفه وغيرها.
ولم يهتم الدارسون بقياس معدلات تلوث البيئه خاصه في اجواء المدن الصناعيه المكتظه بالسكان حتي شتاء1952 م حيث سادت حاله من الركود الجوي في الغلاف الغازي لمدينه لندن( العاصمه البريطانيه) لعده ايام متتاليه تجمعت خلالها ادخنه المصانع في جو المدينه علي هيئه كتل من الضباب الاسود الراكد القريب من سطح الارض والشديد التلوث بعوادم مداخن المصانع وتسبب هذا الضباب الاسود في وفاه اكثر من اربعه الاف شخص واستمر التلوث في جو المدينه بعد زوال هذا السحاب الراكد لمده زادت علي خمسه عشر يوما وقد تكرر حدوث هذه الكارثه في تاريخ مدينه لندن عده مرات كان من اشدها ما حدث في شتاء سنه1962 م كما تكرر في تاريخ غيرها من المدن الصناعيه الاوروبيه والامريكيه.
ومن اخطر كيماويات التلوث غازات كلورو فلوريد الكربون(C.F.C.) او ما يعرف باسم' غاز الفريون' الذي يستخدم في وسائل التبريد والتكييف المختلفه وفي مختلف حاويات وعلب الرش كدافع لرذاذ السوائل والغازات المضغوطه. ومن مخاطر هذا الغاز انه يعمل علي اختزال الاوزون(O3) في طبقته الخاصه المحبطه بالارض وتحويلها الي الاكسجين(O2) مما يعرض الحياه علي سطح الارض للدمار, وذلك لان طبقه الاوزون جعلها الخالق- سبحانه وتعالي- حمايه للحياه علي الارض من اخطار الاشعه فوق البنفسجيه القادمه مع اشعه الشمس وهي اشعات لها قدرات كبيره علي اختراق الاجسام الصلبه ومنها جسم الانسان فتصيبه بعدد من الامراض التي منها سرطانات الجلد وامراض العيون. ومن رحمه الله تعالي- ان حركه الرياح تحمل غاز الفريون المنطلق الي الجو بواسطه عمليات التلويث المختلفه الي المنطقتين القطبيتين الشماليه والجنوبيه وادي ذلك الي تفكك طبقه الاوزون فوق قطبي الارض محدثا ما يعرف اليوم مجازا باسم' ثقبي طبقه الاوزون' ومن هذين الثقبين تنفذ حزم الاشعه فوق البنفسجيه بجرعات تفوق طاقه احتمال الحياه الارضيه.
ولم يكتشف ثقب الاوزون في القطب الجنوبي الا في سنه1982 م ولم يتم الانذار بمخاطره بالنسبه للاحياء الارضيه الا في سنه1984 م. وفي قمه الارض التي عقدت في( ريودي جانيرو) في اوائل الثمانينات تعهد الموتمرون بالعمل علي خفض انتاج الفريون الي النصف قبل سنه1999 م ولم يتم ذلك بعد.
واذا اضفنا الي ذلك امكانيه تسرب المواد الكيميائيه ذاتها من المصانع كما حدث في كارثه بوبال في الهند والتي راح ضحيتها الاف من البشر ومن الحيوانات. واذا اخذنا في الاعتبار تزايد معدلات تراكم العديد من المركبات الكيميائيه الضاره في اجساد الكائنات الحيه نتيجه للافراط في استخدامات المواد الحافظه والملونه للاغذيه والمبيدات الحشريه والمخصبات الزراعيه والمنظفات الصناعيه وغيرها. ومن مثل الافراط في استخدام مياه الصرف الصحي المعالجه كيميائيا في ري النباتات او نتيجه لقذف نفايات المصانع والمستشفيات وغيرها من النفايات الي مياه الانهار والبحيرات والبحار مما يودي الي تلوث كل من الماء وما يذخر به من الاحياء خاصه في ظل تزايد ما ينتجه الانسان المعاصر من نفايات منزليه( تقدر للفرد الامريكي الواحد بحوالي الالف كيلو جرام من القمامه في المتوسط سنويا) اتضحت لنا جوانب من اخطار تلوث البيئه تهدد الحياه علي الارض بمختلف اشكالها تهديدا حقيقيا يستوجب من كل انسان عاقل التوقف لدراسه كيفيه التقليل من انتاج تلك الملوثات والتخلص مما تكدس منها في بيئات الارض لاعاده الحياه الارضيه الي فطرتها السويه التي خلقها الله تعالي عليها.
2 الافساد في الارض بالتلوث الحراري:
لا تقتصر اخطار حرق ملايين الاطنان من الفحم والنفط والاخشاب والغازات الطبيعيه يوميا في مختلف دول العالم علي ما تطلقه من غازات وابخره سامه وملوثات صلبه وسائله بل يمتد ذلك الي رفع درجه حراره الهواء الملاصق لسطح الارض لعدم تشتت هذه الحراره بالكامل الي طبقات الجو العليا بسبب ما تحدثه هذه الغازات السامه من ظاهره' الاحتباس الحراري' واثرها علي اختلال الميزان المناخي الدقيق للارض وما يمكن ان يصاحب هذا الاختلال من كوارث مثل العواصف والاعاصير المدمره وموجات الجفاف والتصحر المهلكه وانصهار الجليد من كل من المناطق القطبيه وقمم الجبال وما يمكن ان يوديه ذلك الي ارتفاع لمنسوب الماء في البحار والمحيطات واغراق لكل من الجزر البحريه والمناطق الساحليه والمنبسطه.
وتكفي هنا الاشاره الي تصحر اكثر من سته ملايين هكتار من الاراضي الزراعيه واراضي الرعي سنويا منذ بدء الثوره الصناعيه في اوروبا الغربيه والي تدمير اكثر من عشره ملايين هكتار من اراضي الغابات وتحويلها الي اراض زراعيه فقيره.
3 الافساد في الارض بالتلوث الاشعاعي:
وهو من اشد منتجات التقنيات الحديثه افسادا لبيئه الارض وفتكا بالانسان والحيوان والنبات وينتج عن تحلل العناصر المشعه التي اخذت دوائر استخدامها في الاتساع بانتشار كل من المفاعلات والاجهزه والاسلحه النوويه بمختلف صورها واشكالها ومحطات توليد الطاقه الكهربائيه بواسطه المواد النوويه والاجهزه الطبيه والبحثيه المستخدمه لتلك المواد وتوظيف اليورانيوم المنضب( المستنفد) في العديد من الصناعات الحربيه والمدنيه وصعوبه التخلص من النفايات النوويه والتي لا تجد الدول المنتجه لها مثوي سوي قيعان البحار والمحيطات او اراضي دول العالم الثالث واستحاله ضمان عدم وصول هذه النفايات الي مختلف بيئات الارض بعد دفنها او عدم تسرب الاشعاع من محطات توليد الطاقه النوويه وتكفي في ذلك الاشاره الي تسربات الاشعاع من مفاعل تشرنوبل بالاتحاد السوفيتي السابق ومن مفاعل جزيره الاميال الثلاثه بالولايات المتحده الامريكيه ومفاعل اسكتلنده بالمملكه المتحده وما احدثته هذه التسربات الاشعاعيه من كوارث بيئيه وبشريه كبيره.
وقد اخذت نسب الاشعاعات النوويه بالتزايد في مختلف بيئات الارض بصوره تنذر بالخطر وذلك مع التوسع في العقود القليله الماضيه في استخدام النظائر المشعه في العديد من الانشطه الصناعيه والطبيه.
والاشعه النوويه لها قدرات تدميريه مهلكه للخلايا والانسجه الحيه اذا تعرضت لها بجرعات تتجاوز احتمالها ويعتقد بان لذلك علاقه بزياده الاصابه بالاورام السرطانيه في السنوات الاخيره خاصه وان اهل الارض لم يكادوا ان يخرجوا من اثار الثوره الصناعيه حتي دخلوا في حربين عالميتين كان ضحاياهما اكثر من65 مليون قتيل غير ملايين المقعدين والمشردين والايتام والارامل وعشرات البلايين من الدولارات علي هيئه خسائر ماديه متنوعه. وانتهت الحرب العالميه الثانيه بكارثتي كل من فلسطين واليابان حين سلمت الموامره البريطانيه ارض فلسطين لغلاه الحركه الصهيونيه العالميه دون ادني حق فاغرقوها في بحر من الدماء والاشلاء والخراب والدمار وضربت الطائرات الامريكيه مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنابل الذريه فابادتهما اباده كامله واهلكت سكانهما وتركت الناجين من بينهم في حالات من التشوه والاعاقه المرعبين ولوثت مختلف البيئات باثار الاشعاع الي يومنا الراهن. وتخزين كل من الدول الصناعيه الكبري والكيان الصهيوني الغاصب لارض فلسطين لالاف الرووس النوويه ولغيرها من اسلحه الدمار الشامل بكميات كبيره لهو من اكبر مصادر تلوث البيئه.
ولا تزال الارض تعصف بها اعاصير الحروب البارده والساخنه ويزداد بها مخزون اسلحه الدمار الشامل عند الدول الصناعيه واذنابها, ولا يقتصر خطر تلك الاسلحه علي استعمالها ولكن يكمن الخطر في امكانيه وقوع ثوره بركانيه او هزه ارضيه او سلسله من العواصف والاعاصير المدمره التي يمكن ان تصل الي ذلك المخزون وتفجره...!! ومن دوافع تكديس اسلحه الدمار الشامل الصراع علي استنزاف ثروات الارض واغلبها ثروات غير قابله للتجدد بنفس سرعات الاستنزاف. والاسراف المخل في التعامل مع العديد من هذه الثروات وهدرها في غير اوجهها الصحيحه او تعطيلها بالكامل وكل ذلك يعرض الارض اليوم لسلاسل من الكوارث البيئيه والبشريه بالاضافه الي الكوارث المعنويه ولذلك قال تعالي:' ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون(41)' الروم(41).
وهذه الايه الكريمه من ايات الاعجاز العلمي والغيبي في كتاب الله لانه لم يكن لاحد من الخلق امكانيه تصور الواقع الحالي البئيس للارض من قبل الف واربعمائه من السنين. وهذا السبق الاخباري وامثاله في القران الكريم مما يشهد له بانه لا يمكن ان يكون صناعه بشريه بل هو كلام الله الخالق الذي انزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العليه في نفس لغه وحيه( اللغه العربيه) وحفظه حفظا كاملا علي مدي الاربعه عشر قرنا الماضيه وتعهد بهذا الحفظ الي ما شاء الله تعالي- فالحمد لله علي نعمه القران والحمد لله علي نعمه الاسلام وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الذي تلقاه واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
حمس لرجام