حمس لرجام عاملي
عدد الرسائل : 1902 العمر : 62 العمل/الترفيه : الأنترنت تاريخ التسجيل : 04/09/2008
| موضوع: الضحك.. رؤية متناقضة السبت يونيو 26, 2010 12:22 pm | |
| هل لأحد منا أن يتخيَّل تعايُش نظرتين متناقضتين لموضوع محدَّد في ثقافة واحدة على مدى العصور والقرون المتعاقبة؟! وإذا تخيلنا ذلك في الثقافات والمناهج البشرية هل لنا أن نتخيله في ثقافة دين سماوي وحضارته؟! وإذا كان هذا يثير التعجب والدهشة؛ فما بالنا إن وجد ذلك في الثقافة الإسلامية التي كانت ثمرةً من ثمرات الإسلام كدين وعقيدة!! مع العلم ببقاء القرآن الكريم محفوظًا من الضياع أو التحريف، ونقاء السنة المطهرة من الوضع والكذب، وهما المصدران الأساسيان للتشريع، فكيف ينتج التناقض الشاسع في الرؤى والأحكام؟! إن موقف الثقافة الإسلامية من الضحك مثال واضح لتعايش طويل لرؤيتَين متناقضتَين، إحداهما تدعو إلى الضحك والمزاح، ونتج عنها ازدهار الأدب الفكاهي، حين اتضحت معالم الحضارة الإسلامية، واستوت على سوقها وتجسَّدت سماتها للعيان فلا تخطئها وسط الحضارات السائدة أو البائدة. والرؤية الأخرى ترى الضحك مذهبةً للهيبة واستدراجًا من للشيطان ومفرخةً للكذب والعصيان؛ مما نفر من الضحك ووضعه في مرتبة مهينة ينبو عنها ذوق الورع ويتحاشاها من لا يريد التورط في الشبهات. إن ثمة نظرتين إلى الضحك في الثقافة الإسلامية إحداهما إيجابية والأخرى سلبية، ولا نعني هنا الحكم الشرعي أو الفقهي، ولكن نشير إلى المحصلة التي انتهى إليها الأمر واستقر، في محاولةٍ قد تعيننا على فهم الملابسات التي أدت لذلك، كما أننا سنذكر بالاستشهادات من كتب الأدب ومصادره. النظرة الإيجابية: لقد أشرنا إلى ازدهار الفكاهة الأدبية في القرن الرابع الهجري عند بلوغ الحضارة الإسلامية أوج مجدها وذروة صعودها، ولم يكن ذلك مجرد حاجة إنسانية اقتضتها الحضارة ورقيّها، ولا دخل للدين أو العقيدة فيها، بل كان الإسلام وتعاليمه هو الباعث الأول لها والمحرك الفعال لاستمرارها وتألقها. فالقرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي ذكر فيه الضحك بصورة إيجابية، كما استخدم السخرية ضد أعدائه، والرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- كان يمزح وإن كان لا يقول إلا حقًّا بما يتناسب ومقام النبوة والرسالة. وسئل النخعي: هل كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يضحكون؟! قال نعم، والإيمان كان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي، وقالت عائشة- رضي الله عنها- كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدخل وأنا ألعب مع صويحباتي ولا يعيب عليَّ، ونلاحظ أن المصنفين لم يُدرجوا هذه الرواية في هذا الباب اعتباطًا!! فاللعب لا يكون إلا مع الضحك والمزاح. وعن أسامة بن زيد- رضي الله عنه- قال: روِّحوا القلوب تعِ الذكر، وعن علي بن طالب- كرم الله وجه-: روِّحوا القلوب، واطلبوا لها طرف الحكمة؛ فإنها تملُّ كما تملُّ الأبدان، وعن الزهري قال: كان رجل يجالس أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحدثهم فإذا كثروا وثقل عليه الحديث قال: إن الأذن مجَّاجة، وإن القلوب حمضة، فهاتوا من أشعاركم وأحاديثكم، وعن محمد ابن إسحاق قال: كان ابن عباس إذا جلس مع أصحابه حدثهم ساعة، ثم قال حمضونا، فيأخذ في أحاديث العرب، ثم يعود يفعل ذلك مرارًا. وكلمة (أحاديث العرب) كانت تعني النوادر والمُلَح؛ إذ كانت لها مسميات متعددة في التراث العربي قبل اكتمال صورتها الفنية في الأدب الفكاهي. وانطلاقًا من توافق المفهوم الإسلامي مع طبيعة البشر واتساقه لحاجاتهم الضرورية الفطرية إلى الضحك والمزاح نجد العديد من كبار الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- قد اشتهروا بالفكاهة، وكان أشهرهم نعيمان- أحد أصحاب النبي البدريين- فمن شدة ولعه بالمزاح والضحك قيل إنه يدخل الجنة وهو يضحك!! ومن أخباره أنه أهدى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جرَّة عسل اشتراها من أعرابي، وأتى بالأعرابي إلى باب النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: خذ الثمن من هاهنا، فلما قسَّمها النبي- صلى الله عليه وسلم- نادى الأعرابي: ألا أُعطَى ثمن عسلي؟! فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: إحدى هنَّات نعيمان، وسأله: لم فعلت هذا؟ فقال: أردت برَّك يا رسول الله ولم يكن معي شيء، فتبسَّم النبي- صلى الله عليه وسلم- وأعطى الأعرابيَّ حقَّه، ولم يكن نعيمان- رضي الله عنه- وحيدًا في ظرفه وفكاهته بين الصحابة الكرام، فهناك آخرون منهم ابن أبي عتيق عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم. وكان أبو هريرة- رضي الله عنه- مسترسلاً في مزاحه، وبلغ منه ذلك أنه كان يستخلفه مروان على المدينة فيركب حمارًا قد شدَّ عليه برذعة وفي رأسه حِلية، فيلقى الرجل فيقول: الطريق، قد جاء الأمير، وربما دعا صديقه إلى عشائه بالليل فيقول: دع العُراق للأمير، فينظر فإذا هو ثريد بزيت، وربما أتى الصبيان وهم يلعبون لعبة الأعراب، فلا يشعرون حتى يُلقي نفسه بينهم، ويضرب برجله، فيفزع الصبيان فيفرون. إن أبا هريرة- رضي الله عنه- لم يكن محبًّا للمزاح يروي النوادر ويحث على سماعها وحسب، لكنه يأتي من الفعال المضحكة ويمعن في ذلك، حتى حين يستخلفه مروان على المدينة يتخذ من منصبه الجديد مادةً للمزاح ويزيد من إضحاكها صدورها عن هذه الشخصية العظيمة، بما لها من إجلال وتقدير، وهو ما التفت إليه الجميع وغفلوا ما تُظهره هذه المواقف من تواضع جمٍّ كان يتمتع به هذا الصحابي الجليل، جعلته يتبسَّط بعفوية محببة هكذا مع رعيته كبارًا وصغارًا. وإنها لحقًّا صورة ما أظرفها لاستقبال المراسم الملكية التي كانت في بداية تسربها إلى المجتمع الإسلامي على أيدي الأمويين!! تلك التي يخرج فيها أبو هريرة- رضي الله عنه- على حماره، وإذا كان الماوردي يستنكف من بعض هذا ويصفه بأنه (خروج عن القدر المستسمح به) فهل يمكن أن نتصور صحابيًّا بقدر أبي هريرة الذي روى أكثر أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يدري ما هو المستسمح به أو أن يغفل عنه ويتجاوزه؟! لم يقف الأمر عند مجرد إباحة الضحك والمزاح في الثقافة الإسلامية ولكنه تطور إلى أبعد من ذلك، فها هو أبو الدرداء يقول: إني لأستجمّ نفسي ببعض الباطل؛ كراهيةَ أن أحمل عليها من الحق ما يُملّها. ويروي ابن الجوزي عن ابن عائشة أحاديث ملاحًا في بعضها رفث، وإن رجلاً قال له: أيأتي من مثلك هذا؟ فقال: ويحك..!! أما ترى أسانيدها؟ ما أحد ممن رويت عنه هو أفضل من جميع أهل زماننا، ولكنكم ممن قبح باطنه، فرأى ظاهره، وإن باطن القوم فوق ظاهرهم. نحن الآن أمام سياق آخر انتقل بالإباحة إلى ساحة أرحب وأوسع تتسع لـ(بعض الباطل) عند أبي الدرداء وتتسع (للرفث) عند ابن عائشة!! يمكننا أن نقول باطمئنان: إن الضحك وجد له في الإسلام سندًا شرعيًّا قويًّا، انطلق من خلاله في الثقافة والأدب والحياة بوجه عام، ولكن هناك نظرة سلبية كان لها أثرها الذي لا يقل أهميةً عن النظرة الإيجابية | |
|