قواعد البناء الإسلامي إذا تداعى أو تصدع صار البناء كله مهددا بالسقوط.
لذلك حظيَّ حديث : "بني الإسلام على خمس.."
بعناية كبيرة من طرف العلماء والدعاة والمربين، ولا يكاد يوجد مسلم –فوق
هذه الأرض- لا يحفظه، وأكثر المسلمين يعرفون المعاني الكلية للشهادتين،
والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولكنَّ القليلين من أبناء الإسلام من
"يفقهون" دقائق ما قام عليه الإسلام وأسرار ما بُنيّ عليه دينهم بسبب
العادة والعرف والاكتفاء بالمبادئ الكبرى وما هو "معلوم من الدين
بالضرورة".
لن أدخل في تفاصيل ودقائق "فقه الصوم" ولن أتعرض، من
قريب ولا من بعيد، لما درج الناس على الإحاطة به خلال شهر رمضان من أحاديث
الترغيب والترهيب، ولن أغوص في "أسرار" الصوم التي دندن حولها الصوفية
والمولعون بالرقائق والباحثون عن الإعجاز والخوارق والغيوب
والإشارات..إلخ، فليس الهدف من هذه الرسالة الكشف عن المخبوء من أسرار
الصوم.. أو البحث في "الماهيات" إنما الهدف الواضح من رسالة رمضان هذه
ثلاثة مقاصد كبرى :
أولها، ركنية الصوم، كونه ركنا من أركان الإسلام وخمس البناء الإسلامي
وثانيها، خطورة مقام المراقبة من موقع الإحسان
وثالثها، الأثر التربوي الفردي والاجتماعي للصائم.
وقد
اخترت التركيز على هذه الزوايا الثلاث دون سواها لما لاحظته من تهاون في
التعاطي مع مستحقات الصوم، ومن استرخاء في الصف، وضعف جاهزية الأفراد لأخذ
الكتاب بقوة، وغلبة "العادة" على العبادة، مما قد يتسبب في تفشي مرضين
خطيرين :
- مرض التقليد المحافظ على الأشكال دون كبير اهتمام بالمضامين
- ومرض الإكتفاء بمجرد أداء الواجب في حدود ما تسمح به الرخص.
وكلاهما
داءان يقودان صاحبهما إلى ما حذر منه المصطفى (ص) من مخاطر الوقوع في حب
الدنيا وكراهية الموت عندما تتحول العبادة من "روح يسري" إلى "شكل يغري"
ومن مراقبة لله من موقع الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه
فإنه يراك" إلى مراقبة للناس بطلب السمعة منهم وعبادة الله على حرف
فما هي حدود ركنية الصوم واستشعار المراقبة، وتحصيل الأثر التربوي الباني للفرد المؤثر في المحيط الاجتماعي؟
1- الركنية :
دائرة الصوم محكومة بالسرية في علاقة خفية بين العبد (الصائم) ومعبوده
(العالم بالخفايا)، أي أن الصوم –على خلاف كل العبادات- عبادة سرية يتم من
خلالها شحن داخلي لمعاني التسليم بأن الله "كتب" علينا الصيام وعلينا أن
نذعن ونسلّم ونعطي لهذا الركن حقه الكامل في تجسيد مفهوم المراقبة التي
تبدأ بمجرد النية في الإمساك المادي وتنهي باستحضار عظمة الله بالصوم
المعنوي : "إني نذرْت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا"، فالصيام عن
الكلام لحاجة تربوية صيام، وصيام الجوارح كلها لنفس العرض صيام، وأعظم
صيام – بعد توفير الشروط الفقهية للإمساك- هو تلمس محصّلات التقوى التي هي
الهدف الأسمى من إحياء هذا الركن العظيم : "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم
الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
فبحساب القيام
بواجب القواعد الخمس للإسلام، وما يترتب على الناطق بالشهادتين، وعلى
المحافظ على طهارة أمواله بالتزكية، وعلى الممسك عن اللمم البعيد عن
اجتراح السيئات بما يتركه نور الصيام في النفس من تسليم واطمئنان، إلى أن
يختم المؤمن دور التركينات الإسلامية بالحج..يكون الصوم هو زكاة النفس
المؤمنة التي بلغت نصاب التسليم لله وحال عليها حول الغفلة والسهو
والتفريط..فيأتي رمضان ليرمض (يحرق) كل العوالق وينهي حالة من المادية
السنوية تجعل نصيب الدنيا يتضخم كثيرا أمام ابتغاء الدار الآخرة.
فإحياء
هذا الركن يبدأ من تعظيم هذه الشعيرة كونها واحدا من أركان الإسلام
الخمسة، وينتهي بمراقبة لله تعالى في السرّ والعلن..ليدرك المسلم أن الله
تعالى هو المراقب، وأن الصيام سرّ بين العبد وربه وأن الله تعالى قد اختبر
به إيمان عباده ليقيموه من موقع التمايز بين ممسك لتحصيل الحمية وصائم
لتحصيل التقوى.
2- المراقبة : نتذكر
دائما أن الجلسة التربوية التي حضرها جبريل (عليه السلام) في هيئة رجل
"شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر.." بدأت بالسؤال المتدرج عن الإسلام،
ثم الإيمان، ثم الإحسان، ثم الساعة، ثم علاماتها وأماراتها..وهو ما يعني :
- أننا نبدأ حياتنا مع الله بالإسلام (ظاهر الفعل).
- ونقترب من الملكوت الأعلى بالإيمان (باطن النية)
- ونسلّم الروح والجسد لله بالإحسان (استشعار المعية)
- ونجهز أنفسنا للرحيل بالتقوى (اختيار الآخرة).
وشهر
رمضان فرصة تتجمع فيها هذه القيم الأربع، فمظاهر الصوم (في بعدها الفقهي
الظاهر) التزام بالإسلام، والتجرد مع التشبه بالملائكة بالامتناع عن الأكل
والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع نية صادقة..اقتراب
من الملكوت عبر جسر الإيمان، وفرض الرقابة الصارمة على كل الجوارح (السمع،
البصر، الفؤاد..الخ) تجسيد لمعاني المراقبة من مقامات الإحسان: "أن تعبد
الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وكل من يحقق في نفسه
هذه المعاني يجد نفسه مستجمعا لمشاعر الاستعداد للرحيل، مصداقا لما عرف به
الإيمان علي (رضي الله عنه) التقوى في أربع كلمات :
- الخوف من الجليل (خوف الله تعالى)
- والعمل بالتنزيل (الاجتهاد في التمسك بالقرآن)
- والرضى بالقليل (مع ضرورة الأخذ بالأسباب).
- والاستعداد ليوم الرحيل (تحضير النفس لليوم الآخر!).
وهو
ما يعني أن المراقبة – في كل لحظة من لحظات حياتنا عامة وفي شهر رمضان
خاصة- ليست مجرد رياضة فكرية أو ممارسة تربوية ندرب أنفسنا عليها فحسب،
وإنما هي عقيدة نحن مطالبون بأن نحييها في نفوسنا لأنها "جوهر" العبادة
ولبّ ما من أجله كتب الله علينا الصوم : "لعلكم تتقون".
3- بين الأثر والتأثير : لكل
عبادة ثمرة، وثمرة الصوم زيادة منسوب التقوى (تربية، وتزكية، وعلاقات) ومن
بركات شهر رمضان أن الله تعالى جعله لحظة للتوبة، وفرصة للمراجعة ومحطة
لاستدراك ما فات، وضاعف فيه الحسنات :
- الفريضة فيه بسبعين فريضة فيما سواه
- النافلة كأنها فريضة
- الذكر مضاعف والصمت تسبيح
- والنوم لللاستقواء على العبادة عبادة.
وأهم ما فيه "تجديد" العلاقات في دوائرها الثلاث :
-
دائرة الربط بالله وفتح كل الأبواب المغلقة على الخيرات والبركات.. في أول
ليلة منه عندما تفتّح أبواب الجنان وتغلّق أبواب النيران وتصفد الشياطين..
- ودائرة الربط بالنفس بمراجعة حساب سنة خلت وعقد العزم على تجديد التوبة وتعميقها وتوسيعها فيما بقي من عمرك
-
ودائرة تحسين العلاقة بالناس بدءا بذوي الأرحام والقربى وانتهاء بكل من لا
يقاتلنا في الدين ولم يتحالف مع أعدائنا وخصومنا..ليسعى في الأرض فسادا.
وعملية
التجديد الإيماني إنما تقوم على وضع خطة تربوية أو برنامج عمل رمضاني يعقد
فيه كل مؤمن العزم مع الله تعالى على أن يبدأ حياة جديدة ملؤها الطاعة
والاجتهاد في التقرب من الله عز وجل بكل وسيلة شرعية تجعل قلب العبد معلقا
بالله مراقبا لأنعامه وآلائه وأفضاله عليه.. صائما نهاره قائما ليله،
داعيا ومتضرعا وعازما على الانخراط الجاد في زمرة الذين أنعم الله عليهم،
وبذلك يحصل التأثر العاطفي الموصل إلى رحمة الله ومنه يبدأ التأثير
التربوي والروحي في المحيط الأسري والاجتماعي ليتحول شهر رمضان إلى
"مدرسة" للتواصل والتناصح والتواد والتراحم، ويتحقق بذلك مفهوم الجسد
الواحد إذا أقبلنا على رمضان بجوارحنا وعظمنا شعائر الله بتقوى القلوب..
الخاتمة :
توجد اليوم مؤسسات تكوين تقدم لكل منتسب إليها شهادة تأهيل في مسمى
التنمية البشرية إذا حضر مجموع دوراتها على مدار 60 ساعة مثلا، ويحمل
المتخرج صفه مدرب، ألاّ يمكن أن نجعل شهر رمضان فرصة لفتح مؤسسة للتأهيل
الإيماني يستلم كل خريج – بعد 30 يوما و30 ليلة- شهادة في التنمية
الإيمانية يصبح بموجبها مؤهلا لقيادة نفسه نحو مرضاة الله تعالى والطمع في
أن يغفر له خطيئاته يوم الدين؟؟
الجواب : نعم، وهذا ممكن جدا بأربعة شروط سهلة ويسيرة لمن يسر الله عليه الانتساب لمدرسة "لعلكم تتقون" :
أولها : نية
صادقة بأن تجدد إيمانك، وتصلح أحوالك، وتفرغ قلبك من الشهوات، وتخلص عقلك
من الشبهات..وتبدأ حياة جديدة بالإقبال على الخير الذي أقبل عليك بقدوم
هذا الشهر الفضيل.
وثانيها : عزم آكد على
أن تقلع عن كل الشرور والفتور والغرور وكل مشبوه ومحظور..وتتذكر سكان
القبور..فتعزم على أن تكون واحدا من المبشرين بالجنة فتقرأ سيّرهم وتقتفي
أثرهم فتحبهم فتحشر معهم : "ألا تحبون أن يغفر الله لكم".
وثالثها :
خلوة رادعة، بأن تهرب قليلا من ضجيج الدنيا وضغط الناس وتخرج من الزحام،
وتتفرغ – خلال هذا الشهر- للتأمل والتفكر، وتسأل نفسك الأسئلة الأربعة
التي سوف تطرح عليك يوم القيامة :
- عمرك فيمَ أفنيته؟
- وشبابك فيما أبليته؟
- وعلمك ما عملت به؟
- ومالك من أين جمعته وفيمَ أنفقته؟
ورابعها،
صحبة خالصة توزعها على ثلاث أصحاب تنفعك صحبتهم في الدنيا، وتعينك يوم
القيامة على عبور الصراط وتجديك شفاعتهم إن شاء الله :
- كتاب الله تعالى تلاوة وتدبرا وسباحة في الملكوت الأعلى
- السيرة العطرة لتوسد خطى الذين أنعم الله عليهم ورضي عنهم
-
صلة الأرحام التي هي جزء من رحمة الله تعالى للناس بالناس..فقد ربط الله
سؤاله بصلة الأرحام : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام".
فإذا
فعلت وطابت لك الصحبة.. فابشر بمقعد صدق عند مليك مقتدر، ولا تنسانا من
صالح الدعوات عند الإفطار ولحظة السحر، وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان
مشهودا.
تقبل الله الصيام والقيام – آمين- والحمد لله رب العالمين.
الشيخ أبوجرة سلطاني