حمس لرجام عاملي
عدد الرسائل : 1902 العمر : 62 العمل/الترفيه : الأنترنت تاريخ التسجيل : 04/09/2008
| موضوع: صوم رمضان: ترشيد للاستهلاك وتوجيه لسوق النقود السبت أغسطس 28, 2010 5:19 pm | |
| بقلم البروفيسور بشير مصيطفى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، ومعنى الحديث أن كل أعمال المرء تحتمل جانب الرياء، حيث تتحقق المنفعة الشخصية إلا الصيام، فإن من طبيعته أنه لا يحتمل ذلك، أي أن لا أحد يمكنه أن يراقب سلوك المسلم في رمضان إلا الله عز وجل... وبالتالي لا شيء يدفع بالمؤمن الى الصيام سوى إيمانه بالله، إذ مع إمكانية أن يفطر المسلم في رمضان دون أن ينتبه اليه أحد من الناس، فهو لا يفعل ذلك. ولو تمكن المسلمون من إسقاط هذه الحالة على نظام حياتهم في الشؤون المتبقية لأمكن الاستغناء عن عديد أدوات الرقابة على السلوك العام ومنها سلوك الأسواق، ولأمكن ادخار حجم معتبر من أموال الأمة مازالت تنفق على تلك الأدوات. فكيف نفهم الصدى الايجابي للرقابة الذاتية المتأتية من خشية الله وحده؟ وكيف يمكن اسقاط مشهد الصيام على النظم المديرة لحياة المسلمين؟ وما الجزاء المنتظر من ذلك على صعيد التوازن العام؟ ترشيد سلوك المستهلك وصل التحليل الاقتصادي الى بناء علاقة للطلب على الاستهلاك يحددها دخل الفرد، سعر السلعة وأذواق المستهلكين، ويقوم الفرد حسب التحليل باتخاذ قرار الاستهلاك حسب مستوى تلك المحددات والهدف من ذلك هو تعظيم المنفعة. وتتعظم المنفعة حسب النظرية الاقتصادية التقليدية عند مستوى معين من الطلب الاستهلاكي، يتحدد بمستوى الدخل ومستوى السعر الى غاية حدود التشبع. وحسب تلك النظرية دائما، لا حد للاستهلاك دون التشبع بل لا يكون المستهلك رشيدا إلا عند بلوغ الحد الأقصى للمنفعة. هذا تفسير مبسط جدا لتحليل الطلب الاستهلاكي من وجهة نظر المدارس التقليدية في الاقتصاد. والنتيجة المباشرة هي تحقيق المنفعة المادية ولكن على حساب توازن الأسواق، حيث يؤدي الطلب الزائد من جهة واحدة - هي جهة الأفراد ذوي الدخل المرتفع - الى رفع أسعار السلع في الأسواق الحرة، ومن ثمة رفع مؤشر التضخم الذي يدفع ثمنه دائما أصحاب المداخيل المتوسطة والدنيا. وفي اقتصاد مبني على الاستهلاك يلجأ الأفراد الى المداخيل المصطنعة أي الاقتراض من البنوك بغرض الانفاق على الاستهلاك مسايرة لنظرية "تعظيم المنفعة" المذكورة، مما ينعش الطلب على القروض الربوية ويدفع الى التوسع في الاقراض الذي غالبا ما يؤدي الى تجاوز معايير السلامة البنكية والى الافلاس الذي يدفع ثمنه دائما صغار المدخرين. أما صوم رمضان فيقدم لنا مشهدا مغايرا تماما لسلوك المستهلك المسلم، حيث يتجه الامساك عن الطعام والشراب نحو الضغط على الطلب من الجهة الواحدة، ويسرع الشعور بالجوع والعطش من وظيفة إعادة توزيع الدخل نحو الأفراد الأقل دخلا بدافع الاحسان والانفاق على الخير، مما يؤدي الى اشتراك الأفراد في نفس القدر من المنفعة فيرتفع الطلب الكلي في الاقتصاد دون أن يؤدي ذلك الى ارتفاع الأسعار كما هو في التحليل الاقتصادي التقليدي، بل إن دخول سوق الاستثمار على الخط لمواكبة الطلب الجديد سيؤدي الى رفع العرض، وبالتالي خفض الأسعار في الأسواق الحرة، وهكذا يحقق المسلم الصائم نفس القدر من المنفعة التي يستهدفها غيره ولكن باستهلاك أقل وبانفاق أدنى من الدخل، وفي ذلك - ربما - بعض الجزاء الذي يتلقاه المجتمع الصائم في الحياة الدنيا. سرعة دوران النقود يربط التحليل الاقتصادي بين فعالية السياسة النقدية وسرعة دوران النقود، وهناك نظرية متكاملة في هذا الموضوع تعرف بالنظرية الكمية للنقود، وقبل أن تسطع هذه النظرية في سماء الأبحاث المعاصرة كان واحد من علماء الاسلام - هو "تقي الدين المقريزي" الذي عاش وسط القرن الثامن الهجري أي وسط القرن 14 للميلاد - ألف رسالة في النقود تعتبر أول وثيقة علمية منهجية في السياسة النقدية. وتعني العلاقة بين نجاعة السياسة النقدية وسرعة دوران النقود، باختصار أنه كلما استخدم النقد في المبادلات التجارية والاستثمار زادت الكمية المعروضة منه، مما يساعد على توفير السيولة دون أثر تضخمي، وفي الحالة العكسية أي حالات الاحتكار والاكتناز والمضاربة يجري الضغط على سرعة دوران النقود، مما يؤدي الى شح السيولة وكبح الاستثمار كمرحلة سابقة لحالة الركود. وتعمد الحكومات في مواجهة هذه الحالة الى تطبيق تدابير التصحيح عن طريق التمويل بالعجز وإصدار السندات الربوية، وفي أمريكا يلجأ الفيدرالي الأمريكي الى رفع الفائدة لاستقطاب الادخار وأحيانا الى ضخ السيولة بطريق إصدار المزيد من الدولار، وهي أدوات متبعة ولكن آثارها التضخمية واسعة. والمتأمل في سلوك الصائم في رمضان - سواء كان هذا الصائم فردا أو أسرة أو يمثل مؤسسة انتاجية أو يصنع استراتيجية نشاط مؤسسة بنكية أو ينوب عن الحكومة كعون اقتصادي - هو الصوم عن الممارسات المعطلة لوظيفة النقود مثل احتكار السلع التي هي بمثابة التعبير السلعي عن كمية النقد، ثم الاكتناز الذي يعمل في اتجاه إخراج النقود من الدورة الاقتصادية، ثم الانفاق على استهلاك أو انتاج السلع والخدمات المحرمة شرعا، وهي نفسها السلع والخدمات محدودة الطلب عليها في المجتمع المسلم، ثم تعاطي الربا في الجهاز البنكي والذي من شأنه أن يطرد النقود من حقول الانتاج الى التجارة في العملة والمضاربات في أسواق المال، ثم المضاربات المختلفة التي تحول دون توزيع المخاطر على أطراف العمليات الاستثمارية. صوم كهذا لا يسمح بتداول النقود خارج معايير السلامة الشرعية، بل يعمل في اتجاه سلوك الريح المرسلة التي بدورها تسرع من عملية دوران النقود مثلما تعمل على نقل الطلع المثمر من شجر الى شجر. حقيقة، ينضبط سلوك الوحدات الاقتصادية في المجتمع المسلم بفضل الصيام دون الحاجة الى تدخل السلطات أو الرقابة من الخارج عدا رقابة المسلم على نفسه وهي نفسها الرقابة المتأتية عن خشية الله بامتياز، ولهذا لا جزاء يقابل الصوم الكامل في الاسلام سوى الجزاء الذي يتعالى الله عز وجل وحده بتقديره. | |
|