الطب الإسلامي
عامل أساسي في خروج أوروبا من عصر الظلام
خرجت أوروبا من عصر الظلام، بفضل النهضة الفكرية والثقافية والعلمية التي عمتها في منتهى القرن الخامس عشر. وقد كان الطب عاملاً من العوامل الأساسية التي خلقت هذه النهضة ودفعتها إلى الأمام، وذلك عن طريق المدارس الطبية العديدة التي انتشرت في أوروبا.
وقد لعب الطب الإسلامي دوراً هاماً وفعالاً في خلق ونهضة وتطوير مدارس الطب الأوروبية. ومن أشهرها مدرسة ساليرن في جنوب إيطاليا، ومدرستي مونبليه، وباريس في فرنسا.
ومع هذا وللأسف، فان المنشورات والكتب الفرنسية، تتحدث قليلاً جداً عن الطب العربي وعن أهميته العلمية والتاريخية. وقلائل جداً هم الأساتذة الذين يذكرون الطب الإسلامي ودوره في خلق جامعة مونبلية وتطورها وهي أولى الجامعات الفرنسية لتدريس الطب، وأقدمها حالياً.
وأن أخذنا هذه المنشورات، وسمعنا أراء هؤلاء الأساتذة، لوجدنا أن أكثر الكتاب والمفكرين الفرنسيين لا يعتقدو ن أن هناك طبا إسلامياً أصيلاً، بل يعتقدون أن دور العرب كان ترجمة المؤلفات اليونانية والهندية، ونقلها إلى اللغة العربية، ومن ثم نقلها إلى أوروبا عن طريق أسبانيا.
على ذلك، يقول سانجور وجو داريلانو( 1) "ليس الطب الإسلامي إلا مجموعة ترجمات كتبت باللغة العربية، من قبل فارسيين ويهود ومسيحيين "، ويقول داريمبرغ(1) " كانت سيطرة الطب الإسلامي في القرون الوسطى سيطرة كاملة في أوروبا. لكن هذا لم يغير جوهر العلم، فقد كان وبقي جالينوسيا فالطب العربي بأجمله، ما هو إلا ترجمة أو بالأحرى تزييف وتزوير للطب الأغريقي "، ويقول بارياتي (3) " أن الميزة المهمة للطب العربي هو حفظه ونقله للمؤلفات اليونانية العديدة التي كانت منسية في الجزء الأول للقرون الوسطى ". ويقول كاستيجليوني (4): " أن الطب الإسلامي ما هو إلا الطب اليوناني القديم، لابسا حلة جديدة " ويقول الكاتب روتر دي روزمون (5): " ليست المؤلفات العربية إلا ترجمة لكتب ديوسكوريدس وجالينوس وما كان معروفاً في تلك الأيام "، ويقول الكسندرايم (6): " لقد عادت الحياة إلى المدرسة البيزنطية مع الرازي وابن سينا في القرن العاشر، ومع الزهراوي في القرن الثاني عشر، ومع ابن رشد في القرن الثالث عشر. والأهمية الكبرى التي نستطيع إعطاءها لهؤلاء العلماء، هو انتقال العلوم اليونانية عن طريقهم إلى مدرسة ساليرن ". اما باربيون (7) فيقول: " أن رداءة الطب العربي شيء واضح وأكيد. فإننا لا نجد لهم أي اكتشاف في التشريح، وأي تقدم في الفيزيولوجيا. وكل ما نجده هو بعض الكتب في علم جس النبض، ودراسة الحرارة واستعمال بعض الأدوية الجديدة. أما باقي كتبهم فما هي إلا كلام ومناقشات لا معنى لها ولا مضمون ".
ولكننا حين ننظر إلى الموضوع عن كثب، فإننا نجد أن العرب لم يكتفوا بترجمة المؤلفات اليونانية والهندية، لكنهم اعطوا العالم أطباء بكل معنى الكلمة، واعطوا للطب شكلاً لم يكن معروفاً من قبل، وكانت مدارسهم مثلاً اقتدى الغرب بها، فخلق جامعاته على نفس النمط، وعلم فيها ما كان يعلم في المدارس الإسلامية.
وسنرى أولا ما كان عليه الطب الإسلامي في القرن العاشر، ثم نبين الدور الذي لعبه في خلق وتطوير مدارس ساليرن ومونبليه وباريس، ومن ثم في الحركة العلمية التي أدت إلى عصر النهضة.
الطب الإسلامي في القرن العاشر للميلاد:
منذ القرن العاشر أخذ الطب بفضل الأطباء المسلمين، شكلاً جديداً لم يكن معروفاً من قبل، لا عند إبقراط ولا جالينوس ولا عند غيرهم. وكان هذا الطب الجديد يرسخ على ثلاث ركائز متينة:
أ: نظام طبي للتعليم والممارسة
ب: تشخيص الأمراض ووصف أمراض جديدة
ج: علم الصيدلة واكتشاب أدوية جديدة
أ: تنظيم التعليم الطبي وممارسة مهنة الطب:
كان هذا التنظيم يعتمد على مدرسة للعلم تعطى فيها الدروس النظرية وتشرح فيها الكتب العلمية. وإلى جانب هذه المدارس، كانت بيوت الكتب تغص بالمؤلفات من كل الأنواع. كما كانت هناك مستشفيات للمرضى، يعطي فيها المعلم الدروس العملية. ومستشفيات بغداد والري وابن طولون أمثلة حية على ذلك.
وكانت هناك قواعد لهذا النظام: فقد كان على من يود ممارسة مهنة الطب، الحصول على أجازه لذلك. وكانت هذه الإجازة، تعطى من قبل لجنة تتشكل من أعضاء لهم خبرة ويرأسها عالم. وكان لهذه اللجنة الحق في سحب الإجازة ممن كانت معلوماتهم غير كافية (3).
ب: والى جانب هذا التنظيم، كان الطب في مضمونه وفي مادته جديداً فكتب الحاوي للرازي، " والملكي " لابن العباس، والقانون لابن سينا، لم تكن ترجمة لكتب القدماء. بل أعتمد الأطباء المسلمون على تشخيص كل مرض بظواهر عديدة، وعلى اكتشاف ووصف أمراض لم تكن معروفة قبلاً.
وكانت المؤلفات الطبية الإسلامية عديدة وهامة: فموسوعة الحاوي للرازي كانت مؤلفة من 24 كاباً أو فصلاً وتحتوي على كل المعلومات الطية المعروفة في القرن العاشر.
وكان كتاب القانون لابن سينا مرجعاً طبياً، وبدون منازع، طيلة القرون الوسطى. وان كان ابن سينا قد لقب في الشرق باسم " الشيخ الرئيس " فقد كان لقبه في الغرب" أمير الأطباء " (
.
ج: وكان علم الصيدلة منظماً كغيره من العلوم. وللعرب فضل كبير في نهضته وتطوره. فمنذ القرن العاشر، نجد فرقا بين الصيادلة والعطارين ونجد قواعد وقوانين الصيدلة في كتاب "نشاجة الرطبة"، الذي كتب في سنة1236. وتوجد نسخة منه تعود إلى القرن الخامس عشر، في مكتبة سار اييفو. بيوغوسلافيا (0، 10).
وقد انتشر الطب الإسلامي وتطور بسرعة هائلة فكان هناك منذ القرن العاشر أطباء ذوو شهرة واسعة. واستفادت أوروبا كلها من ازدهار الطب الإسلامي عموماً وازدهاره في أسبانيا على الأخص. فقد كان هناك أوروبيون يدرسون الطب الإسلامي في الجامعات الإسلامية، ومن أشهرهم جيريبر دورياك، جيرار دي كريمونه، ارنو دي فيلنوف وقسطظين الإفريقي..
وأولى هذه المدارس هي مدرسة ساليرن في جنوب إيطاليا، ومن بعدها مدرستي مونبليه وباريس في فرنسا:
مدرسة ساليرن:
كان في مدينة ساليرن، دير قد أسس في بداية القرن التاسع: وكان فيه رهبان يسعفون المرضى حسب النظريات المعروفة في تلك الأيام، مقتدين براهب دير جبل كاسينو المجاور. وكان هذا الراهب قد ألف كتابا دعاه " "المعجزات الطبية للقديس بنوا " لكن شهرة هذا الدير لا تتعلق بالمعجزات الطبية المذكورة ولكن من حيث أن الراهب المذكور ويدعى ديزيره، أصبح فيما بعد، رئيساً للكنيسة المسيحية تحت أسم البابا فيكتور الثامن. وقد بقيت شهرة ساليرن شهرة محلية حتى نهاية القرن الحادي عشر.
وفي نهاية القرن الحادي عشر في سنة 1077 م. وصل إلى بلدة ساليرن الراهب قسطنطين الأفريقي (وقد دعي بالأفريقي لأنه ولد في بلد ة قرطاجة ) وكان قد درس الطب في سفراته في مصر وسورية والهند.
ويقال أنه زار بغداد ودرس فيها علوم الطب على ماسوية وسرابيون. وقد ترجم قسطنطين كتب على بن العباس، وأهم هذه الكتب كتاب " الملكي "، من دون أن يذكر أسم مؤلفه. وترجم كذلك كتاب علم العيون لحنين بن إسحاق، وكتاب زاد المسافر لابن الجزار.
وادخل قسطنطين أسلوياً جديداً في ممارسة الطب وفي تعليمه في ساليرن. فقد كانت طريقته في فحص المريض وتشخيص مرضه، طريقة لم تكن معروفة قبلاً في أوروبا. وكانت الأدوية العربية التي يستعملها، أدوية جديدة وفعالة فذاعت شهرته في أنحاء أوروبا.
ثم نظم مدرسة ساليرن على نمط مدارس الطب الشهيرة في الشرق وفي أسبانيا "فكانت الدراسة مركزة في المستشفى وفي بيوت الكتب، وكان المعلمون يشكلون لجنة توجه الطالب في عمله " (4)، فذاعت شهرة المدرسة واصبح الطلاب يقصدونها من جميع الأنحاء.
والى جانب ترجمات قسطنطين التي ذكرناها سابقاً، كان برنامج الدراسة يحتوي على مؤلفات أخرى، كتبها أساتذة المدرسة، وتحتوي على كثير من الطب والأدوية الإسلامية (4).
وباستطاعتنا القول أن وصول الطب الإسلامي إلى ساليرن، كان عاملاً أساسياً في نهضة المدرسة وشهرتها، أكان ذلك عن طريق تنظيم الدراسة فيها، أو عن طريق الأدوية الجديدة، أو عن طريق تشخيص الأمراض التي كانت غير معروفة قبلاً( 12).
وقد شجع نجاح مدرسة ساليرن وشهرتها، ظهور مدارس أخرى للطب، منظمة على نفس النمط، مطبقة نفس الأسلوب ومعلمة نفس الكتب. ومن أشهرها بولونيا، بيز وبادو بإيطاليا، ومنبلية وباريس في فرنسا.
مدرسة مونبليه :
في نهاية القرن الثاني عشر، كان الطب يمارس في مونبليه من قبل بعض الرهبان، وبعض الأطباء المسلمين الذين اختاروا المدينة مقاماً لهم، وبعض اليهود، خصوصاً بعد هرب الكثير منهم من أسبانيا أثر استلام الموحدين الحكم فيها سنة 1147 م (13).
وكانت الفوضى تعم ممارسة مهنة الطب. فلم يكن هناك أي نظام. وكان باستطاعة أي كان إنشاء مدرسة للمارسة والتعليم (14). وفي سنة 1220 قرر الكاردينال كونراد، مرسل البابا هونوريوس الثالث وضع حد لهذه الفوضى. فأنشأ مدرسة مونبليه ونظمها على شبه مدارس الطب الإسلامية. واصبح على من يود ممارسة مهنة الطب، الحصول على إجازة تعطى من قبل لجنة فاحصة، مشكلة من أطباء مشهورين يرأسهم مسؤول ديني.
وقد احتل الطب الإسلامي مركز الصدارة في برنامج الدولة طيلة القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فكان الأساتذة يشرحون ابن سينا والرازي والزهراوي. وكان جالينوس يذكر من وقت لآخر، وأكثر الأطباء اليونانيين الأخر كانوا غير معروفين (
. ومن بين الأساتذة المشهورين نذكر: ارنو دي فيلنوف وارمنجو بلازن وبيار دي كابستان وجان حكم، وكانوا يدعون بـ " المستعربين " لأنهم، كانوا يدرسون الأطباء العرب دون غيرهم.
ويعطنا كتاب " الدروس والمفاتيح " (15) فكرة دقيقة عن برنامج مدرسة مونبليه من سنة 1489 إلى سنة 1500.
فمن سنة 1489 إلى سنة 1500 كانت كتب ابن سينا تحتل الصدارة وكان لها حصة الأسد في برنامج الدروس.
حتى أنه في بعض السنوات كانت تشكل المادة الوحيدة للدراسة كسنة 1490. وتظهر لنا هذه اللائحة أن ابقراط لم تكن له الأهمية التي يود الغرب إعطاءه إياها.
وقد بقي الطب الإسلامي يحتل مركزاً مهماً في تاريخ الدروس حتى منتصف القرن السادس عشر، وكان الاساتذة " المستعربون " كثرة بين الأساتذة. ونجد في كتاب استروك (16) أن أحد الأساتذة ويدعى (رينه مورو)، يهاجم أستاذا آخر يدعى (جاك ديبوا) لتعليمه الطب الإسلامي دون غيره، كما يعيب على جامعة مونبليه حبها وميلها للطب الإسلامي. ويقول استروك معلقاً: " من الصحيح، أن مونبليه علمت، ولوقت طويل، الطب الإسلامي، لكن في
الحقيقة لم يكن لها الاختيار، مثلها كباقي الجامعات الأوروبية ".
كل هذا يظهر لنا الدور الذي لعبه الطب الإسلامي في تطور ونهضة مدرسة مونبليه.
مدرسة باريس
وقد حصل في باريس ، ما حصل مونبيلة وساليرن من قبل . فكان تنظيم المدرسة نسخة عن المدرستين السابقتين. ولن نطيل بتعداد برنامج مدرسة باريس فلم يكن يختلف كثيراً عما كان يدرس في ساليرن،-خاصة أنه كان بين أساتذة باريس، أستاذ تخرج من ساليرن وهو جيل دي كورباي.
وكلنا يعرف قصة (الحاوي) ولويس الحادي عشر: فقد أراد هذا الملك أن يضع نسخة من الحاوي في مكتبته، وطلب من مكتبة الجامعة أعارته إياه لنسخة. وبعد مناقشات عديدة بين الأساتذة قررت الجامعة إعارة الكتاب ولكن بعد الحصول على كفالة مالية، مشكلة من 12 طاقماً فضياً للمائدة ومائة ريال من ذهب. مما يدل على قيمة (الحاوي) في ذلك العصر.
هذا العرض السريع يعطينا لمحة عن الدور الذي لعبه الطب الإسلامي في نشأة وتطور مدارس الطب في أوروبا.
فالحركة التي بدأت في ساليرن انتشرت بعد ذلك بسرعة فعم الطب العربي أوروبا كلها، وكان الأطباء العرب قدوة يقتدى بهم. طوال قرون عديدة. وفي نهاية القرون الوسطى، كانت هناك 80 مدرسة أوروبية منها 19 مدرسة فرنسية تدرس الطب الإسلامي، وتشرح الأطباء العرب. وقد أخرجت هذه المدارس أفواجا من الأطباء والفلاسفة والصيادلة والجراحين كروجيه باكون وتوماس الاكويني وغي دوسولياك وهنري دي موندفيل وغيرهم... وقد خلق هؤلاء فكراً علمياً وثقافياً، وكانا الأساس والخميرة لما دعي فيما بعد بعصر النهضة الأوروبية.
واعتمادا على ما سبق باستطاعتنا التأكيد أن الطب الإسلامي كان عاملاً أساسياً في خروج أوروبا من عصر الظلام، وباستطاعتنا التأكيد أيضا أننا لا نجد في أكثر الكتب والمنشورات الفرنسية ما يدل على أن أوروبا تذكر الجميل.
ا لمرا جع
ا- سانجورجو داريلانو: تاريخ الطب والصيدلة وعلم الإنسان: ص 511 كتاب باريس 1936- طبع ألبان ميشال.
2- وينتر بيار: تاريخ الطب والصيدلة وعلم الأسنان: كتاب: 2 ص 44- باريس 1936- طبع ألبان ميشال.
3- بارياتي وخوري: تاريخ الطب، ص 2 26- 0 28. طبع فايارد، باريس 963 1.
4- كاستيغليوني: تاريخ الطب، ص 259- 262. طبع بايو، باريس 1931.
5- روتر دي روزمون: تاريخ الصيدلة في بداية القرون الوسطى كتاب 1، 1931
6- الكسندر ايم: غي دوشولياك أبو الجراحة الحديثة، مونسبلينسين هيبوقراتس السنة السادسة، رقم 18 1962.
7- باربيون لويس: تاريخ الطب، ص 35. طبع ديبريه، باريس 1886
8- سوبيران: ابن سينا والطب العربي، أطروحة طبية مكتبة باريس الجامعية سنة 1935.
9- العازار ودرسيس: تاريخ الصيدلة، رقم 3، برلين 1959.
0 1- أميل غيتار: مجلة التاريخ الصيدلي، كتاب 0 2- رقم 4 20- سنة 970 1.
11- توركيني حنا: ساليرن ومونبليه؛ مونسبلينسيس هيبوكراتس؛ السنة الرابعة، رقم 14، 1961.
12- هاران هرفيه: الطب العربي في مونبليه، دفاترتونس 1955.
13- بوريس مارسيل: جامعات جنوب فرنسا في القرن الثالث عشر دفاتردي فانجو 1970، طبع بريفات، رقم ه.
14- دي ليولويس: الطب في مونبليه، المطابع الجامعية 1975، كتاب ا.
15- جان استروك: ذكريات لخدمة تاريخ جامعة مونبليه، 1767، أرشيف جامعة مونبليه، الكتاب الخامس.