الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
عيدكم سعيد وعمركم في طاعة الله مديد..وبعد:
عندما قال يوسف (ع) لوالده يعقوب (ع) إنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين، بادره والده (ع) بالقول المحذرّ من الوقوع في تبعات الحسد النابع من الإحساس بشيء من التفاضل البشري الذي لا فضل فيه للناس على بعضهم -لأنه اختصاص رباني- فالله يختص برحمته من يشاء، وهو وحده سبحانه يجعل الفضل حيث يشاء، ويعطي الملك من يشاء وينزعه عمّن يشاء، ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء..إلخ.
فقال يعقوب (ع) معقباً على رؤيا يوسف (ع) وروايته
( يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً)).والتحذير هنا نابع من معرفة الوالد بنفسية السابقين من أبنائه، و ((بعقلية)) الذين كانوا ((يحتلّون)) المواقع المتقدمة في كل شيء، فجاء يوسف (ع) ليزاحمهم عليها ويتربع على عرش قلب أبيه كمقدمة للتربع على عرش الملك..
والحقيقة أنني قرأت تفاسير كثيرة لهذا المعنى ولم أجد بها ما يشفي غليلي منها حتى سمعت أحد الدعاة يقول ما مفاده :
- إن السابق ينظر إلى اللاحق بعين النقص والريبة.. مهما كان فضل اللاحقين.
- وإن "الأخ الأكبر" في كل عائلة يرى نفسه أجدر باستخلاف أبيه والاستحواذ على تركته مهما كانت جهود بقية إخوانه في جمع الثروة وتكثيرها، حتى أن بعض الثقافات تسمي الابن الأكبر ((لص الأسرة)) أو لص العائلة.. لأنه يستحوذ على مجمل الامتيازات بحجة أنه هو الأكبر والأقدم ويرى نفسه الأجدر باستخلاف أبيه على العائلة إذا مات الوالد، لمجرد أنه ((قديم)). !؟
- وإن الوالد إذا أحسّ بوهن العظم واشتعال الرأس شيباً واقتراب الأجل ((تتمركز)) عواطفه حول أقرب أبنائه منه، وأشدّهم به ارتباطاً، وعادة ما يكون أقربهم إليه مودة أصغرهم سناً، فيُحدث هذا الشعور نوعاً من ((الغيرة)) في قلوب بقيّة إخوانه.
- وأن أحرج اللحظات في حياة الإنسان، خاصة الآباء، هي ((لحظة الوداع)) التي تختلط فيها مشاعر ((التوريث)) بمشاعر ((التوديع)) وتتداخل صور ما بعد الرحيل بحقائق ما كان قبل الرحيل..وهكذا.
هنا تسقط الألقاب، والمراتب، والدرجات..ويعود الإنسان الحالم بالأمس إلى حقيقته الأولى بلا أصباغ، ودون ((ملابس)) فضفاضة تخفي المشاعر الحقيقية للإنسان المجرّد من الحول والقوّة.
وبالفعل، فقد تجلت هذه الحقائق في صور كثيرة ساقها القرآن الكريم متحدثاً عن أفاضل من اصطفاهم الله تعالى لحمل رسالاته... فتحدث عن مشاعر نوح (ع) وهو يشاهد فلذة كبده يرفض الركوب في السفينة مع المؤمنين ويزعم أنه لاجئ إلى جبل يعصمه من الماء.. فجاشت نفسه بما كشف عنه لسانه : (( يابني اركب معنا..)) وقرأناها في مشاعر إبراهيم (ع) وهو يرد -خمس مرات متعاقبة-النداء الحاني لوالده (يا أبتي..يا أبتي..) لموعدة وعدها إياه، فلما تبيّن له أنه عدّو لله تبرأ منه، وقرأناها في مشاعره تجاه ابن أخيه لوط(ع)، كما قرأناها في عواطف أيوب، وزكريا، وهود، وغيرهم (ع).
أما في عواطف ومشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فكانت متضخمة إلى درجة أن الله عاتبه قائلاً ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً))، هل تقتل نفسك حسرة عليهم إذا أصّروا على ماهم عليه من الشرك والكفران؟ وقد حصل مثل ذلك في قصة زواج زيد (ض) وطلاقه لزوجه.. وفقه التبني، وفي أسرى بدر، وفي المحاولات المتكرّرة لحمل عمه أبي طالب على الإسلام..وسواها..
هذه المفاتيح النفسية هي التي أوحت إليّ بحديث عيد الأضحى المبارك لهذا العام من سنة 1429هـ، وهو حديث -جاء على غير عادتي في أحاديث الأعياد السابقة - أطمع أن أصحح به بعض الاختلالات الحاصلة في نسيجنا التربوي، وفي مساراتنا السياسية، وفي علاقاتنا الاجتماعية.. إلخ، التي يُفترض أن تنطلق من فقه الأخوّة القائم على قوله تبارك وتعالى ((إنّما المؤمنون إخوة)).
أسوق هذه المعاني التربوية في الخلاصات الخمس التالية:
1. الحلم والحقيقة : الأحلام هي البذور التي نزرع بها حقول المستقبل، فقل لي بأي شيء تحلم، أقول لك، من أنت، وكما قال الشاعر: ((على قدر أهل العزم تأتي العزائم)) ولعل الزعماء الكبار الذين كانوا يحلمون –في طفولتهم- بأن يقودوا البشرية إلى الحريّة والعدل والجمال، كانوا في نظر أقرانهم مجانين أو ((أنصاف مجانين))، وما علم هؤلاء الخامدون أن الحد الفاصل بين العبقرية والجنون يحكمه شرطان:
- الاحتياط من الغرور القاتل.
- مراعاة عامل الزمن في تجسيد الحلم.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد كانت الحركات الإسلامية قبل عشرين (20) عاماً تحلم بأن يفهم الناس خطابها (الذي كان غريباً عن القاموس الاجتماعي ومخيفاً للدوائر السياسية) فصار اليوم خطاباً واقعياً معتدلاً، يركن إليه القاصي ويعتصم به الداني ويبحث عنه اللهفان ويجد الرحمة فيه الإنسان والحيوان..
فأكثروا من الأحلام -إذا كنتم أصحاب همم عالية -وأرسلوها إلى بناء المستقبل وطهروها من الغرور، ولا تصادموا سنن الله فإنها غلاّبة.. تسلموا وتغنموا.
2. الغرور المتفرّد: لقد قال ذو القرنين ((فأعينوني بقوّة)) ومع أنه كان قادراً أن يبني السدّ وحده –لأنه أوتي من كل شيء سبباً –لكنه أراد أن يُشرك قوماً، لا يكادون يفقهون قولاً، في بناء مشروع كبير يحول بين الخير والشر، ورفض ما عرضوه عليه من خراج ليعلمهم جملة من الأمور نحن أحوج الناس إلى فقهها اليوم، إذا كان في نية أبناء الحركات الإسلامية الواعية في العالم أن يتجاوزوا رذيلة الاصطفاف أمام باب واحد إلى فضيلة الدخول من أبواب متفرقة في زمن صارت ثقافته فارضة لعمل الفريق وداحضة للكاريزميات الفردية ولو كانت في قوة ((ذي القرنين))، ومن أهمها:
- التخلّي عن ثقافة المقايضة، فالدعاة إلى الله لا يطعمون الناس (بالعلم، والفهم، والنصح، والتوجيه، والمساهمة في المشاريع الخيرية..إلخ) طمعاً في دنياهم..إنما يفعلون كل ذلك لوجه الله، لا يريدون من أحد جزاءاً ولا شكوراً.
- إشراك الجميع في مشاريع الخير ولو كانوا ضعفاء..وذلك بجمع الأفكار وإبداء الرأي، ونسج العلاقات، والتطوّع بما يملك كل فرد من فائض ((زبر الحديد)) ..ثم النفخ المتعاون، على الانجاز في كل ذلك، بما يمتّنه ويزيّنه لخدمة المشروع الكبير ..ليتولى صاحب المشروع تحديد زمن إفراغ القطر إذا قدّر أنّ (( تراكم المسعى)) قد بلغ منتهى ما بين الصدفين.
وهذا فقه دقيق لا يعقله إلاّ العالمون.
3. رد الفضل لله: بالاعتقاد أن ليس لنا من الأمر شيء، فالله جلّ جلاله هو الخافض الرافع، وهو المعطي المانع، وهو المعزّ المذلّ..بل هو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ..
وقد عجبت لأقوام يسلبهم الله الملك فيسخطون على الناس وكأنّ الناس –في نظر هؤلاء الخاوية قلوبهم من عقيدة التسليم لصاحب الملك- قادرون على المنع والعطاء مع أنهم يقرأون في الصباح والمساء بأنّ الله هو مالك الملك، وهو المتصرّف وحده في ملكه، وليس لنا إلاّ بذل الجهد والأخذ بظاهر الأسباب تماماً كما فعل ذو القرنين : (( وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً))، وإني رأيت الملتصقين بالجماعة المنخرطين في مسارات مؤسساتها هم الصفوة المستسلمة لقضاء الله وقدره، أما الرافضون لمشيئة الله – بأفعالهم وسلوكاتهم حتى لو سلّموا بأقوالهم – فإنهم ضحايا غرور قديم قذف بهم قدراً إلى قمم القيادة في لحظات غفلة واسترخاء، فلما جاءت الصحوة وأفاق الناس من نومة الضحوة، وجدوا أنفسهم في العراء، فما اقتنعوا بالتحوّلات وما سلّموا بالنتائج وما استسلموا لقضاء الله وقدره، ولا ردوا الفضل لأهل الفضل.. فهم بين حائر في ما جرى، وخائر أمام تطورات الأحداث، وبائر يعرض سلعته القديمة المقلّدة (المغشوشة) في سوق لم يعد يؤمن أصحابها إلاّ بالمنتوجات الممهورة بأختام المؤسسات الشرعية.
4. أحلام المتواضعين: ما أعظم أن ترد الفضل لله، فقد قال الخضر (رضي الله عنه) لموسى (عليه السلام) : لم أتصرف من تلقاء نفسي.. بعد أن رآه يفقد صبره أمام مشاهد غير مألوفة (خرق السفينة، قتل الغلام، بناء الجدار) فشرح له تفاصيل الاجتهاد وعواقب الفعل، ثم قال له : ((وما فعلته عن أمري )) فهو أمر الله وقضاؤه وقدره، وهي مشيئة الله الماضية في خلقه، وهي نفسها العبارة التي ختم بها ذو القرنين رحلته التي انتهت بإقامة السد بين فساد ياجوج وماجوج ومخاوف أقوام جاهلين، لا يكادون يفقهون قولاً.. فلما فرغ من بناء مشروع الإنقاذ الحضاري بعد أن علّمهم فقه التعاون وآداب عمل الفريق، والتواضع لله تعالى، وعدم طلب الأجر على الخدمة -رفض خراجهم كون المصلح لا يعمل أجيراً عند أحد- ودّعهم بالقول الواثق في الله تعالى ((قال هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكًّا وكان وعد ربي حقّاً)). لقد ردّ كل الفضل لله وخرج – كما دخل- بلا غرور ولا منّ ولا أذى ..لترسخ الصدقات وتنآى عن حركة الإصلاح أشباح رياء الناس.
وما أحوجنا اليوم إلى تواضع ذي القرنين، وعفته، وطهارته، والتزامه بما وعد به الناس، وصبره، وتخطيطه، وإتقانه لعمله، وبراءته من ادّعاء أقوام لا يكادون يفقهون قولاً بأنه صاحب الحَول والطَول" بردّ كل فضل لصاحب الحول والقوّة.
5. أحلام العاملين وأضغاث الحالمين: يعجبني في شباب الحركة الإسلامية عامة وشباب حركة مجتمع السلم وشاباتها خاصة أنهم يحلمون ويعملون، فإذا وجدوا من يحلم ولا يعمل انفضّوا عنه وتركوه يتساءل ((أين الذين كانوا حولي بالأمس)) وما عَلِم أصحاب أضغاث الأحلام أن القطط هي وحدها التي تحلم بالدفء في الشتاء، وأن الكائنات السباتية (العاجزة عن تجسيد أحلامها بالعمل) تلجأ إلى ((دفن)) نفسها في الشتاء واصطناع الموت البيولوجي بانتظار قدوم موسم حرّ جديد.
هذا هو الفرق الفاصل بين (( إني أرى في المنام أني أذبحك)) والجواب الواثق (( افعل ما تؤمر)) وبين الفرعون الذي تورط في سباعية الأبقار السمان والبقرات العجاف، والسنابل الخضر واليابسات..فما استطاع المحيطون به من الغوغاء، تفسيرها، والتحفوا بالادّعاء الفارغ: أنها أضغاث أحلام، ومن كان عاجزاً عن تعبير الرؤيا فهو أعجز عن تجسيدها في الواقع، ولذلك احتاج الأمر إلى فقه يوسفي لا يكتفي بتعبير الرؤيا نظرياً فحسب، وإنما يبادر - بعد التعبير والتنظير - باقتراح التصدي لتجسيدها في الواقع، بوضع نفسه تحت تصرف ((الحالمين)) بقيادة الجماهيرليساعدهم على إحقاق العدل والإنصاف بين الناس، وتوجيههم إلى اتّقاء شرّ السنوات العجاف بخير السنوات السمان، ويتدبر آفاق السنابل اليابسات بحاضر السنبلات الخضر.. ويشارك في إدارة الأزمة.
هذا هو فقه أحلام اليوم لتصبح حقائق الغد، جمعناه لكم في هذه الخلاصات الخمس رغبة في التذكير والاختصار، ليدرك أبناء الحركة الإسلامية الواعية أن ((كوابيس)) الأمس صارت أحلام اليوم، وأن أحلام اليوم صائرة بإذن الله تعالى، حقائق الغد بشروط ثلاثة:
الابتعاد عن ((سفاسف الأمور))، وخصومات الفجور، وعتبات أصحاب الدثور، ولعلنا سنعود إلى شرحها لاحقاً، إذا وجدنا في الصف من يحتاج إلى الشرح والبيان، ذلك أن كثيراً من علماء الإسلام قد كتبوا حول هذه المحاور.. وقد أجاب الأستاذ الراشد -على سبيل المثال- من يتساءلون عن تخطي حواجز التربية العقائدية (لكسب القلوب والعقول) وتعويضها بخدمة الناس من خلال المصالح والخدمات(لشراء ذممهم) فانتفض قائلاً: ((كلا، فلسنا مثل الأحزاب الغربية في البلاد الرأسمالية التي تتسابق إلى كسب الناس من خلال تقديم الخدمات، وإن كانت خدمة الناس من الحق، وهي من فضائل الإيمان ، وخير الناس أنفعهم للناس، ولكننا نميّز معنى التمايز : وحبنا وبغضنا هو في الله، والمسلم أخ لنا، والملحد نعاديه ونكبته، ونحتكم إلى شرع الله إذعاناً لله تعالى وطاعة، ونغرس في الناس هذا المعنى من الامتثال والتسليم ونضع القرآن فرقاناً بيننا وبين قومنا وحكامنا، والجبّار المتعجرف عندنا صغير في أدنى التضاؤل، والضعيف الموحد كبير في ذرى التسامي. والله أكبر)).
وخاتمة المقال، بالمختصر المفيد، هي هذه البشريات التي صارت تتوالى علينا من غير حول منّا ولا قوّة، فما كان حلماً صار حقيقة برغم ضعف قوتنا وقلّة حيلتنا وهواننا على الناس، وإذا كانت المقدمات مبشّرة بالسنابل الخضر فإننا سنحتاط، من داخل المؤسسات العاملة، لاحتمال ردود أفعال اليابسات، بترك بعض الحصاد في سنبله (( إلاّ قليلاً ممّا تأكلون)).
وعيدكم مبارك سعيد..
والحمد لله ربّ العالمين